سورة الإسراء - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا(73)}
وهذه خبيثة جديدة من خبائثهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يحاولون جادِّين أنْ يصرفوا رسول الله عما بعثه الله به، فمرة يقولون له: دَعْ آلهتنا نتمتع بها سنة ونأخذ الغنائم من ورائها وتحرم لنا بلدنا أي: ثقيف كما حرمت مكة. ومرة يقولون له: لا تستلم الحجر ويمنعونه من استلامه حتى يستلم آلهتهم أولاً.
ومعنى {كَادُواْ} أي قاربوا، والمقاربة غير الفعل، فالمقاربة مشروع فعل وتخطيط له، لكنه لم يحدث، إنهم قاربوا أنْ يفتنوك عن الذي أُنزِل إليك لكن لم يحدث؛ لأن محاولاتهم كانت من بعيد، فهي تحوي حول فتنتك عن الدين، كما قالوا مثلاً: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة.
ومعنى: {لَيَفْتِنُونَكَ} لَيُحوّلونك ويَصْرِفونك عما أنزل الله إليك، لماذا؟ {لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ..} [الإسراء: 73] كما حكى القرآن عنهم في آية أخرى: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ..} [يونس: 15].
فيكون الجواب من الحق سبحانه: {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15].
وقال تعالى: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
ونلاحظ في مثل هذا الموقف أن الحق سبحانه يتحمل العنت عن رسوله، وينقل المسألة من ساحة الرسول إلى ساحته تعالى، لكي لا تكون عداوة بين محمد وقومه، فالأمر ليس من عند محمد بل من عند الله، يقول تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
فلا تحزن يا محمد، فأنت مُصَدَّق عندهم، لكن المسألة عندي أنا، وهكذا يتحمل الحق سبحانه الموقف عن رسوله حتى لا يحمل القوم ضغينة لرسول الله.
ثم يقول تعالى: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73].
الخليل: هو المخالّ الذي بينك وبينه حُبٌّ ومودّة، بحيث يتخلل كل منكما الآخر ويتغلغل فيه، ومنه قوله تعالى في إبراهيم: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125].
ومنه قول الشاعر:
وَلَمَّا التقيْنَا قَرَّبَ الشَّوْقُ جَهْدَهُ *** خَليليْنِ ذَابَا لَوْعَةً وَعِتَابَا
كأنَّ خَليِلاً فِي خِلاَلِ خَليِلِه *** تَسَرَّبَ أثناءَ العِنَاقِ وَغَابَا
فإذا ما تقابل الخليلان ذاب كل منهما في صاحبه أو تخلَّله ودخل فيه.
فالمعنى: لو أنك تنازلتَ عن المنهج الذي جاءك من الله لَصِرْتَ خليلاً لهم، كما كنت خليلاً لهم من قبل، وكانوا يحبونك ويقولون عنك (الصادق الأمين). إذن: الذي جعلهم في حالة عداء لك هو منهج الله جئتَ به، فلو تنازلتَ عنه أو تهاونت فيه فسوف يتخذونك خليلاً، فلا تكُنْ خليلاً لهم بل خليلاً لربك الذي أرسلك.
ويخاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقول: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}.


{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74)}
{وَلَوْلاَ} أداة شرط إن دخلت على الجملة الاسمية، وتفيد امتناع وجود الجواب لوجود الشرط، ويسمونها حرف امتناع لوجود، كما لو قلت: لولا زيدٌ عندك لَزُرْتُكَ، فقد امتنعت الزيارة لوجود زيد.
فإنْ دخلت(لولا) على الجملة الفعلية أفادتْ الحثَّ والحضَّ، كما في قوله تعالى: {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ..} [النور: 13].
و(لولا) في الآية دخلتْ على جملة اسمية؛ لأن(أن) بعدها مصدرية، فالمعنى: لولا تثبتنا لك لقاربتَ أن تركنَ إليهم شيئاً قليلاً.
والمتأمل في هذه الآية يجدها تحتاط لرسول الله عدة احتياطات، فلم تقُلْ: لولا تثبتنا لك لَركنتَ إليهم، لا، بل لَقاربتَ أنْ تركنَ فمنعتْ مجرد المقاربة، أما الركون فهو أمر بعيد وممنوع نهائياً وغير مُتصوّر من رسول الله، ومع ذلك أكّد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله: {شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74] أي: ركوناً قليلاً.
مما يدلُّ على أن طبيعته صلى الله عليه وسلم حتى دون الوحي من الله طبيعة سليمة بفطرتها، فلو تصوَّرنا عدم التثبيت له من الله ماذا كان يحدث منه؟ يحدث مجرد(كاد) أو(قَرُب) أنْ يركنَ إليهم شيئاً قليلاً، وقلنا: إن المقارنة تعني مشروعَ فِعْل، لكنه لم يحدث، مِمّا يدلُّ على أن لرسول الله ذاتية مستقلة.
ومعنى {ثَبَّتْنَاكَ..} [الإسراء: 74] التثبيت هو منع المثبَّت أنْ يتأرجح، لذلك نقول للمتحرك: اثبت.
ومعنى: {تَرْكَنُ} من ركون الإنسان إلى شيء يعتصم به ويحتمي، والناس يبنون الحوائط ليحموا بها ممتلكاتهم، وإذا احتمى الإنسان بجدار فأسند ظهره إليه مَثلاً فقد حَمَى ظهره فقط، وأمن أنْ يأتيه أحد من ورائه، فإنْ أراد أنْ يحميَ جميع جهاته الأربع، فعليه أن يلجأ إلى رُكْن وأنْ يسند ظهره إلى الركن فيأمن من أمامه، ويحتمي بجدار عن يمينه وجدار عن شماله. إذن: الركون أن تذهب إلى حِرْز يمنعك من جميع جهاتك.
ومن الركون قوله تعالى عن لوط عليه السلام مع قومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أي: أحتمي به وألجأ إليه.
والحق سبحانه في هذه الآيات يريد أنْ يستلَّ السخيمةَ على محمد صلى الله عليه وسلم من قلوب أعدائه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هدايتهم وتأليف قلوبهم، وقد كان يشقُّ على نفسه ويُحمّلها ما لا يطيق في سبيل هذه الغاية، ومن ذلك ما حدث من تَرْكه عبد الله بن أم مكتوم الذي جاءه سائلاً، وانصرافه عنه إلى صناديد قريش؛ لذلك عتب عليه ربه تبارك وتعالى لأنه شقَّ على نفسه.
وكأن الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يقول: يا قوم إنْ لم يوافقكم محمد على ما كنتم تريدون منه الانصراف عَمَّا أُنزِل إليه من ربه، فاعذروه؛ لأن الأمر عندي والتثبيت مني، ولا ذنب لمحمد فيما خالفكم فيه، كما لو كان عندك خادم مثلاً ارتكب خطأ ما، فأردت أنْ تتحمل عنه المسئولية، فقلت: أنا الذي كلفتُه بهذا وأمرتُه به، فالأمر عندي وليس للخادم ذنب فيما فعل.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات...}.


{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75)}
{إِذاً} أي: لو كِدتَ تركن إليهم شيئاً قليلاً لأذقناك ضِعْف الحياة وضِعْف الممات، وبهذا التهديد يرفع الحق سبحانه سخيمة الكُرْه من صدور القوم لمحمد، وينقلها له سبحانه وتعالى.
ومعنى {ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات..} [الإسراء: 75] الضعْف: مضاعفة الشيء مرة أخرى. أي: قَدْر الشيء مرتين، ولا يُذاق في الحياة إلا العذاب، فالمراد: لأذقناك ضِعْف عذاب الحياة وضِعْف عذاب الممات، لكن لماذا يُضَاعَف العذاب في حَقِّ محمد صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: لأنه أُسْوة كبيرة وقُدْوة يقتدي الناس بها، ويستحيل في حقِّه هذا الفعل، ولا يتصور منه صلى الله عليه وسلم، لكن على اعتبار أن ذلك حدث منه فسوف يُضاعَف له العذاب، كما قال تعالى في نساء النبي: {يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً} [الأحزاب: 30].
ذلك لأنهن بيت النبوة وأمهات المؤمنين، وهنَّ أُسْوة لغيرهنّ من نساء المسلمين، وكلما ارتفع مقام الإنسان في مركز الدعوة إلى الله وجب عليه أنْ يتبرأ عن الشبهة؛ لأنه سيكون أُسْوة فعل، فإنْ ضَلَّ فلن يضل في ذاته فقط، بل سيضل معه غيره، ومن هنا شدَّد الله العقوبة وضاعفها للنبي ولزوجاته.
وقد اختار الحق سبحانه لفظ {لأذَقْنَاكَ}؛ لأن الإذاقة من الذَّوْق، وهو أعمّ الملكَات شُيوعاً في النفس، فأنت ترى بعينك وتسمع بأذنك وتشمُّ بأنفك، لكن المذاق تشترك فيه كل الملكات.
ثم يقول تعالى: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 75].
أي: لا تجد مدافعاً يدافع عنك؛ أو ناصراً ينصرك؛ لأن مددَك مني وحدي، فكيف يكون لك ناصر من دوني؟
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا}.

21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28